من سورة المعارج
صدقة جارية
تفسير اية رقم ١٩-٣٥
من سورة المعارج
﴿۞ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعࣰا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَیۡرُ مَنُوعًا (٢١) إِلَّا ٱلۡمُصَلِّینَ (٢٢) ٱلَّذِینَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَاۤىِٕمُونَ (٢٣) وَٱلَّذِینَ فِیۤ أَمۡوَ ٰلِهِمۡ حَقࣱّ مَّعۡلُومࣱ (٢٤) لِّلسَّاۤىِٕلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ (٢٥) وَٱلَّذِینَ یُصَدِّقُونَ بِیَوۡمِ ٱلدِّینِ (٢٦) وَٱلَّذِینَ هُم مِّنۡ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشۡفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمۡ غَیۡرُ مَأۡمُونࣲ (٢٨) وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَـٰفِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلَىٰۤ أَزۡوَ ٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَیۡرُ مَلُومِینَ (٣٠) فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَاۤءَ ذَ ٰلِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ (٣١) وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِأَمَـٰنَـٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَ ٰعُونَ (٣٢) وَٱلَّذِینَ هُم بِشَهَـٰدَ ٰتِهِمۡ قَاۤىِٕمُونَ (٣٣) وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ یُحَافِظُونَ (٣٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ فِی جَنَّـٰتࣲ مُّكۡرَمُونَ (٣٥)﴾ [المعارج ١٩-٣٥]
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْإِنْسَانِ وَمَا هُوَ مَجْبُولٌ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ: ﴿إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ أَيْ: إِذَا أَصَابَهُ الضُّرُّ فَزِعَ وَجَزِعَ وَانْخَلَعَ قَلْبُهُ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ، وَأَيِسَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرٌ.﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ أَيْ: إِذَا حَصَلَتْ لَهُ(١) نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بَخِلَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَنَعَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُلَيّ بنُ رَباح: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بن الحكم قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيرة يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "شَرُّ مَا فِي رَجُلٍ شُحٌ هَالِعٌ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ".وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي، بِهِ(٢) وَلَيْسَ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ عِنْدَهُ سِوَاهُ.ثُمَّ قَالَ: ﴿إِلا الْمُصَلِّينَ﴾ أَيِ: الْإِنْسَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الذَّمِّ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ، وَهَدَاهُ إِلَى الْخَيْرِ وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَهُ، وَهُمُ الْمُصَلُّونَ ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ يُحَافِظُونَ عَلَى أَوْقَاتِهِمْ وَوَاجِبَاتِهِمْ. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ.وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدَّوَامِ هَاهُنَا السُّكُونُ وَالْخُشُوعُ، كَقَوْلِهِ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ١، ٢] . قَالَهُ عُتْبَةُ بْنُ عَامِرٍ. وَمِنْهُ الْمَاءُ الدَّائِمُ، أَيِ: السَّاكِنُ الرَّاكِدُ.وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الَّذِينَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا دَاوَمُوا عَلَيْهِ وَأَثْبَتُوهُ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحُ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلّ". وَفِي لَفْظٍ: "مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ"، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا داوم عليه. وفي لفظ: أثبته(٣) .وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ ذُكر لَنَا أَنَّ دَانْيَالَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَعَتَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ فَقَالَ: يُصَلُّونَ صَلَاةً لَوْ صَلَّاهَا قَوْمُ نُوحٍ مَا غَرِقُوا، أَوْ قَوْمُ عَادٍ مَا أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الرِّيحُ الْعَقِيمُ، أَوْ ثَمُودُ مَا أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ. فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهَا خُلُق لِلْمُؤْمِنِينَ حَسَنٌ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ أَيْ: فِي أَمْوَالِهِمْ نَصِيبٌ مُقَرِّرٌ لِذَوِي الْحَاجَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي "سُورَةِ الذَّارِيَاتِ".
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ أَيْ: يُوقِنُونَ بِالْمَعَادِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَ مَنْ يَرْجُو الثَّوَابَ وَيَخَافُ الْعِقَابَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ أَيْ: خَائِفُونَ وَجِلُونَ، ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾ أَيْ: لَا يَأْمَنُهُ أَحَدٌ مِمَّنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ إِلَّا بِأَمَانٍ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ أَيْ: يَكُفُّونَهَا عَنِ الْحَرَامِ وَيَمْنَعُونَهَا أَنْ تُوضَعَ فِي غَيْرِ مَا أَذِنَ اللَّهُ [فِيهِ](٤) وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ أَيْ: مِنَ الْإِمَاءِ، ﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ(٥) ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ بِمَا أَغْنَى عَنِّي إعادته هاهنا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ أَيْ: إِذَا اؤْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا، وَإِذَا عَاهَدُوا لَمْ يَغْدِرُوا. وَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَضِدُّهَا صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا وَرَدَ فِي(٦) الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ". وَفِي رِوَايَةٍ: "إِذَا حَدَّث كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَر، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"(٧) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾ أَيْ: مُحَافِظُونَ عَلَيْهَا لَا يَزِيدُونَ فِيهَا، وَلَا يَنْقُصُونَ مِنْهَا، وَلَا يَكْتُمُونَهَا، ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٣] .ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾(٨) أَيْ: عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَمُسْتَحِبَّاتِهَا، فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِذِكْرِ الصَّلَاةِ وَاخْتَتَمَهُ بِذِكْرِهَا، فَدَلَّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِهَا وَالتَّنْوِيهِ بِشَرَفِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ؛ سَوَاءٌ لِهَذَا قَالَ هُنَاكَ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠، ١١] وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾ أَيْ: مُكْرَمُونَ بِأَنْوَاعِ الْمَلَاذِّ وَالْمَسَارِّ.
(١) في م: "عنده".
(٢) المسند (٢/٣٢٠) وسنن أبي داود برقم (٢٥١١) .
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٣، ٦٤٦٥) وصحيح مسلم برقم (٧٨٥) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(٤) زيادة من م.
(٥) في م: "سورة المؤمنون".
(٦) في م: "كما ورد به".
(٧) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية: ٨ من سورة المؤمنون.
(٨) في أ: "على صلاتهم".
تعليقات
إرسال تعليق