من سورة الكهف
صدقة جارية
تفسير اية رقم ٧٩_٨٢
من سورة الكهف
﴿أَمَّا ٱلسَّفِینَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَـٰكِینَ یَعۡمَلُونَ فِی ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِیبَهَا وَكَانَ وَرَاۤءَهُم مَّلِكࣱ یَأۡخُذُ كُلَّ سَفِینَةٍ غَصۡبࣰا (٧٩) وَأَمَّا ٱلۡغُلَـٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَیۡنِ فَخَشِینَاۤ أَن یُرۡهِقَهُمَا طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰا (٨٠) فَأَرَدۡنَاۤ أَن یُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَیۡرࣰا مِّنۡهُ زَكَوٰةࣰ وَأَقۡرَبَ رُحۡمࣰا (٨١) وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـٰمَیۡنِ یَتِیمَیۡنِ فِی ٱلۡمَدِینَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزࣱ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحࣰا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن یَبۡلُغَاۤ أَشُدَّهُمَا وَیَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةࣰ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِیۚ ذَ ٰلِكَ تَأۡوِیلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرࣰا (٨٢)﴾ [الكهف ٧٩-٨٢]
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ﴾ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمِسْكِينَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَقَدْ مَضَى هذا المعنى مستوفي في سورة "براءة"(١). وقد وقيل: إِنَّهُمْ كَانُوا تُجَّارًا وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ هُمْ مسافرون على قلت(٢) فِي لُجَّةِ بَحْرٍ، وَبِحَالِ ضَعْفٍ عَنْ مُدَافَعَةِ خَطْبٍ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِمَسَاكِينَ، إِذْ هُمْ فِي حَالَةٍ يُشْفَقُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِهَا، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ وَقَعَ فِي وَهْلَةٍ أَوْ خَطْبٍ: مِسْكِينٌ. وَقَالَ كَعْبٌ وَغَيْرُهُ: كَانَتْ لِعَشَرَةِ إِخْوَةٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَرِثُوهَا مِنْ أَبِيهِمْ خَمْسَةٌ زَمْنَى، وَخَمْسَةٌ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ. وَقِيلَ: كَانُوا سَبْعَةً لِكُلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَمَانَةٌ لَيْسَتْ بِالْآخَرِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّقَّاشُ أَسْمَاءَهُمْ، فَأَمَّا الْعُمَّالُ مِنْهُمْ فَأَحَدُهُمْ كَانَ مَجْذُومًا، وَالثَّانِي أَعْوَرَ، وَالثَّالِثُ أَعْرَجَ، وَالرَّابِعُ آدَرَ، وَالْخَامِسُ مَحْمُومًا لَا تَنْقَطِعُ عَنْهُ الْحُمَّى الدَّهْرَ كُلَّهُ وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ، وَالْخَمْسَةُ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَ الْعَمَلَ: أَعْمَى وَأَصَمُّ وَأَخْرَسُ وَمُقْعَدٌ وَمَجْنُونٌ، وَكَانَ الْبَحْرُ الَّذِي يَعْمَلُونَ فِيهِ مَا بَيْنَ فَارِسَ وَالرُّومِ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: "لِمَسَّاكِينَ" بِتَشْدِيدِ السِّينِ، وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: هُمْ مَلَّاحُو السَّفِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَسَّاكَ هُوَ الَّذِي يَمْسِكُ رِجْلَ السَّفِينَةِ، وَكُلُّ الْخَدَمَةِ تَصْلُحُ لِإِمْسَاكِهِ فَسُمِّيَ الْجَمِيعُ مَسَّاكِينَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَرَادَ بِالْمَسَّاكِينِ دَبَغَةَ الْمُسُوكِ وَهِيَ الْجُلُودُ وَاحِدُهَا مَسْكٌ. وَالْأَظْهَرُ قِرَاءَةُ: "مَسَاكِينَ" بِالتَّخْفِيفِ جَمْعُ مِسْكِينٍ، وَأَنَّ مَعْنَاهَا: إِنَّ السَّفِينَةَ لِقَوْمٍ ضُعَفَاءَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْفَقَ عَلَيْهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها﴾ أَيْ أَجْعَلَهَا ذَاتَ عَيْبٍ، يُقَالُ: عِبْتُ الشَّيْءَ فَعَابَ إِذَا صَارَ ذَا عَيْبٍ، فَهُوَ مَعِيبٌ وَعَائِبٌ. وَقَوْلُهُ: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: (صَحِيحَةٍ) وَقَرَأَ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ (صَالِحَةٍ). وَ (وَرَاءَ) أَصْلُهَا بِمَعْنَى خَلْفَ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ كَانَ خَلْفَهُ وَكَانَ رُجُوعُهُمْ عَلَيْهِ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى (وَرَاءَ) هُنَا أَمَامَ، يُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ "وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ غَصْبًا". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: "وَرَاءَهُمْ" هو عندي على بابه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجئ مُرَاعًى بِهَا الزَّمَانُ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدَثَ(٣) الْمُقَدَّمَ الْمَوْجُودَ هُوَ الْأَمَامُ، وَالَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ هُوَ الْوَرَاءُ وَهُوَ مَا خُلِّفَ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي مَوَاضِعِهَا حَيْثُ وَرَدَتْ تَجِدْهَا تَطَّرِدُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَاهَا: إِنَّ هَؤُلَاءِ وَعَمَلُهُمْ وَسَعْيُهُمْ يَأْتِي بَعْدَهُ فِي الزَّمَانِ غَصْبُ هَذَا الْمَلِكِ، وَمَنْ قَرَأَ "أَمَامَهُمْ" أَرَادَ فِي الْمَكَانِ، أَيْ كَأَنَّهُمْ يَسِيرُونَ إِلَى بَلَدٍ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (الصَّلَاةُ أَمَامَكَ)(٤) يُرِيدُ فِي الْمَكَانِ، وَإِلَّا فَكَوْنُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ أَمَامَ الصَّلَاةِ فِي الزَّمَانِ، وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَإِنَّهَا مُرِيحَةٌ مِنْ شَغَبِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَوَقَعَ لِقَتَادَةَ فِي كِتَابِ الطَّبَرِيِّ "وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ" قَالَ قَتَادَةُ: أَمَامَهُمْ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ١٠"(٥) وَهِيَ بَيْنُ أَيْدِيهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَهَذِهِ هِيَ الْعُجْمَةُ الَّتِي كَانَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ يَضِجُّ مِنْهَا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. قُلْتُ: وَمَا اخْتَارَهُ هَذَا الْإِمَامُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَرَفَةَ، قَالَ الْهَرَوِيُّ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: يَقُولُ الْقَائِلُ كَيْفَ قَالَ "مِنْ وَرَائِهِ" وَهِيَ أَمَامُهُ؟ فَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو عَلِيٍّ قُطْرُبٌ أَنَّ هَذَا مِنَ الْأَضْدَادِ، وَأَنَّ وَرَاءَ فِي مَعْنَى قُدَّامَ، وَهَذَا غَيْرُ مُحَصَّلٍ، لِأَنَّ أَمَامَ ضد وراء، وإنما يصلح هذا] في الأماكن(٦) والأوقات، كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ إِذَا وَعَدَ وَعْدًا فِي رَجَبٍ لِرَمَضَانَ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ وَرَائِكَ شَعْبَانُ لَجَازَ وَإِنْ كَانَ أَمَامَهُ، لِأَنَّهُ يَخْلُفُهُ إِلَى وَقْتِ وَعْدِهِ، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا الْقُشَيْرِيُّ وَقَالَ: إِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِي الْأَوْقَاتِ، وَلَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ أَمَامَكَ إِنَّهُ وَرَاءَكَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَوَّزَهُ غَيْرُهُ، وَالْقَوْمُ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِخَبَرِ الْمَلِكِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَضِرَ حَتَّى عَيَّبَ السَّفِينَةَ، وَذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي اسْتِعْمَالِ وَرَاءَ مَوْضِعَ أَمَامَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا- يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا بِكُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ قَالَ الله تعالى: ﴿مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ١٠﴾ [الجاثية: ١٠] أَيْ مِنْ أَمَامِهِمْ: وَقَالَ الشَّاعِرُ:(٧)أَتَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي ... وَقَوْمِي تَمِيمٌ وَالْفَلَاةُ وَرَائِيَايَعْنِي أَمَامِي. وَالثَّانِي- أَنَّ وَرَاءَ تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ أَمَامَ فِي الْمَوَاقِيتِ وَالْأَزْمَانِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَجُوزُهَا فَتَصِيرُ وَرَاءَهُ وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا. الثَّالِثُ- أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْأَجْسَامِ الَّتِي لَا وَجْهَ لَهَا كَحَجَرَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَرَاءَ الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِمَا، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى. وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ هَذَا الْمَلِكِ فَقِيلَ: هُدَدُ بْنُ بُدَدَ. وَقِيلَ: الْجَلَنْدِيُّ، وَقَالَهُ السُّهَيْلِيُّ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ اسْمَ الْمَلِكِ الْآخِذِ لِكُلِّ سَفِينَةٍ غَصْبًا فَقَالَ: هُوَ [هُدَدُ بن بدد والغلام المقتول(٨) اسمه جيسور، وَهَكَذَا قَيَّدْنَاهُ فِي (الْجَامِعِ) مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ الْمَرْوَزِيِّ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ حَيْسُورُ بِالْحَاءِ وَعِنْدِي فِي حَاشِيَةِ الْكِتَابِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: وَهِيَ حَيْسُونُ. وَكَانَ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ جَيِّدَةٍ غَصْبًا فَلِذَلِكَ عَابَهَا الْخَضِرُ وَخَرَقَهَا، فَفِي هَذَا مِنَ الْفِقْهِ الْعَمَلُ بِالْمَصَالِحِ إِذَا تَحَقَّقَ وَجْهُهَا، وَجَوَازُ إِصْلَاحِ كُلِّ الْمَالِ بِإِفْسَادِ بَعْضِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَجْهُ الْحِكْمَةِ بِخَرْقِ السَّفِينَةِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَإِذَا جَاءَ الَّذِي يُسَخِّرُهَا وَجَدَهَا مُنْخَرِقَةً فَتَجَاوَزَهَا، فَأَصْلَحُوهَا بِخَشَبَةٍ، الْحَدِيثَ. وَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا الْحَضُّ عَلَى الصَّبْرِ فِي الشَّدَائِدِ، فَكَمْ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾(٩) [البقرة: ٢١٦].قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ ٨٠ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ: (أَنَّهُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا) وَهَذَا يُؤَيِّدُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ غَيْرُ بَالِغٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُ مَعَ كونه بالغا، وقد تقدم. [هذا المعنى(١٠).قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما﴾ ٨٠ قِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، أَيْ خِفْنَا (أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) ٨٠، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَبَاحَ لَهُ الِاجْتِهَادَ فِي قَتْلِ النُّفُوسِ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْهُ عَبَّرَ الْخَضِرُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَاهُ فَعَلِمْنَا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْ فَعَلِمْنَا، وَهَذَا كَمَا كَنَّى عَنِ الْعِلْمِ بِالْخَوْفِ فِي قَوْلِهِ ﴿إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾(١١) [البقرة: ٢٢٩]. وَحُكِيَ أَنَّ أُبَيًّا قَرَأَ: "فَعَلِمَ رَبُّكَ" وَقِيلَ: الْخَشْيَةُ بِمَعْنَى الْكَرَاهَةِ، يُقَالُ: فَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا خَشْيَةَ أن يَقْتَتِلَا، أَيْ كَرَاهَةَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي تَوْجِيهِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يُدَافِعهُ أَنَّهَا اسْتِعَارَةٌ، أَيْ عَلَى ظَنِّ الْمَخْلُوقِينَ وَالْمُخَاطَبِينَ لَوْ عَلِمُوا حَالَهُ لَوَقَعَتْ مِنْهُمْ خَشْيَةُ الرَّهَقِ لِلْأَبَوَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ "فَخَافَ رَبُّكَ" وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الِاسْتِعَارَةِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ فِي جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ لَعَلَّ وَعَسَى وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي هَذَا كُلِّهِ مِنْ تَرَجٍّ وَتَوَقُّعٍ وَخَوْفٍ وَخَشْيَةٍ إِنَّمَا هُوَ بِحَسْبِكُمْ أَيُّهَا المخاطبون. و "يُرْهِقَهُما ٨٠" يُجَشِّمُهُمَا وَيُكَلِّفُهُمَا، وَالْمَعْنَى أَنْ يُلْقِيَهُمَا حُبُّهُ فِي اتِّبَاعِهِ فَيَضِلَّا وَيَتَدَيَّنَا بِدِينِهِ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما﴾ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَشَدِّ الدَّالِّ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ، أَيْ أَنْ يَرْزُقَهُمَا اللَّهُ وَلَدًا.(خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) أَيْ دِينًا وَصَلَاحًا، يُقَالُ: بَدَّلَ وَأَبْدَلَ مِثْلُ مَهَّلَ وَأَمْهَلَ وَنَزَّلَ وَأَنْزَلَ.(وَأَقْرَبَ رُحْماً) قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ "رُحُمًا" بِالضَّمِّ، قَالَ الشَّاعِرُ:وَكَيْفَ بِظُلْمِ جَارِيَةٍ ... وَمِنْهَا اللِّينُ وَالرُّحُمُالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ:يَا مُنْزِلَ الرُّحْمِ عَلَى إِدْرِيسَا ... وَمُنْزِلَ اللَّعْنِ على إبليساواختلف عن أبي عمرو. و "رُحْماً" مَعْطُوفٌ عَلَى "زَكاةً" أَيْ رَحْمَةً، يُقَالُ: رَحِمَهُ رَحْمَةً وَرُحْمًا، وَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ، وَمُذَكَّرُهُ رُحْمٌ. وَقِيلَ: إن الرُّحْمُ هُنَا بِمَعْنَى الرَّحِمِ، قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ. "وَأَوْصَلَ رُحْمًا" أَيْ رَحِمًا، وَقَرَأَ أَيْضًا "أَزْكَى مِنْهُ". وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمَا بُدِّلَا جَارِيَةً، قَالَ الْكَلْبِيُّ فَتَزَوَّجَهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَوَلَدَتْ لَهُ نَبِيًّا فَهَدَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ. قَتَادَةُ: وَلَدَتِ اثَّنَيْ عَشَرَ نَبِيًّا، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْضًا أَنَّ أُمَّ الْغُلَامِ يَوْمَ قُتِلَ كَانَتْ حَامِلًا بِغُلَامٍ مُسْلِمٍ وَكَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَوَلَدَتْ جَارِيَةً وَلَدَتْ نَبِيًّا، وَفِي رِوَايَةٍ: أَبْدَلَهُمَا اللَّهُ بِهِ جَارِيَةً وَلَدَتْ سَبْعِينَ نَبِيًّا، وَقَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا بَعِيدٌ وَلَا تُعْرَفُ كَثْرَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ لَمْ تَكُنْ فِيهِمْ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَهْوِينُ الْمَصَائِبِ بِفَقْدِ الْأَوْلَادِ وَإِنْ كَانُوا قِطَعًا مِنَ الْأَكْبَادِ، وَمَنْ سَلَّمَ لِلْقَضَاءِ أَسْفَرَتْ عَاقِبَتُهُ عَنِ الْيَدِ الْبَيْضَاءِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَقَدْ فَرِحَ بِهِ أَبَوَاهُ حِينَ وُلِدَ وَحَزِنَا عَلَيْهِ حِينَ قُتِلَ، وَلَوْ بَقِيَ كَانَ فِيهِ هَلَاكُهُمَا. فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ فِيمَا يَكْرَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ قَضَائِهِ لَهُ فِيمَا يُحِبُّ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ﴾ هَذَانِ الْغُلَامَانِ صَغِيرَانِ بِقَرِينَةِ وَصْفِهِمَا بِالْيُتْمِ، وَاسْمُهُمَا أَصْرَمُ وَصَرِيمٌ(١٢). وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (لَا يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغٍ) هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِمَا اسْمُ الْيُتْمِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إِنْ كَانَا يَتِيمَيْنِ، عَلَى مَعْنَى الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ(١٣) أَنَّ الْيُتْمَ فِي النَّاسِ مِنْ قِبَلِ فَقْدِ الْأَبِ، وَفِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْحَيَوَانِ مِنْ قِبَلِ فَقْدِ الْأُمِّ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: "فِي الْمَدِينَةِ" عَلَى أَنَّ الْقَرْيَةَ تُسَمَّى مَدِينَةً، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ(١٤) تَأْكُلُ الْقُرَى) وَفِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ (لِمَنْ أَنْتَ) فَقَالَ الرَّجُلُ: مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، يَعْنِي مَكَّةَ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما﴾ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَنْزِ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: كَانَ مَالًا جَسِيمًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنِ اسْمِ الْكَنْزِ إِذْ هُوَ فِي اللُّغَةِ الْمَالُ الْمَجْمُوعُ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ(١٥) فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عِلْمًا فِي صُحُفٍ مَدْفُونَةٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَ لَوْحًا مِنْ ذَهَبٍ مَكْتُوبًا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ، عَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالرِّزْقِ كَيْفَ يَتْعَبُ، عَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، عَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْحِسَابِ كَيْفَ يَغْفُلُ، عَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالدُّنْيَا وَتَقَلُّبِهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ لَهَا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ وَعُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ، وَرَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً﴾ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَالسَّابِقُ مِنْهُ أَنَّهُ وَالِدُهُمَا دِنْيَةً(١٦). وَقِيلَ: هُوَ الْأَبُ السَّابِعُ، قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَقِيلَ: الْعَاشِرُ فَحُفِظَا فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ بِصَلَاحٍ، وَكَانَ يُسَمَّى كَاشِحًا، قَالَهُ مُقَاتِلٌ اسْمُ أُمِّهِمَا دُنْيَا(١٧)، ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ(١٨). فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الله تعالى يَحْفَظُ الصَّالِحَ فِي نَفْسِهِ وَفِي وَلَدِهِ وَإِنْ بَعُدُوا عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُ الصَّالِحَ فِي سَبْعَةٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ(١٩)، وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾(٢٠) [الأعراف: ١٩٦].قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ يَقْتَضِي أَنَّ الْخَضِرَ نَبِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ.(ذلِكَ تَأْوِيلُ) أَيْ تَفْسِيرُ.(مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) قرأت فرقة: "تستطيع". وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: "تَسْطِعْ" قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَذَا نَقْرَأُ كَمَا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ. وَهُنَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- إِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمْ يُسْمَعْ لِفَتَى مُوسَى ذِكْرٌ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَلَا فِي آخِرِهَا، قِيلَ لَهُ: اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يُسْمَعْ لِفَتَى مُوسَى بِذِكْرٍ وَقَدْ كَانَ مَعَهُ؟ فَقَالَ: شَرِبَ الْفَتَى مِنَ الْمَاءِ فَخَلَدَ، وَأَخَذَهُ الْعَالِمُ فَطَبَّقَ عَلَيْهِ سَفِينَةً(٢١) ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْبَحْرِ، وَإِنَّهَا لَتَمُوجُ بِهِ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ فَشَرِبَ مِنْهُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ فَلَيْسَ الْفَتَى يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَإِنَّ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ قَدْ عُمِّرَ بَعْدَ مُوسَى وَكَانَ خَلِيفَتُهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مُوسَى صَرَفَ فَتَاهُ لَمَّا لَقِيَ الْخَضِرَ. وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اكْتُفِيَ بِذِكْرِ الْمَتْبُوعِ عَنِ التَّابِعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- إِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ أَضَافَ الْخَضِرُ قِصَّةَ اسْتِخْرَاجِ كَنْزِ الْغُلَامَيْنِ لله تعالى، وقال في خرق السفينة: "فأرادت أَنْ أَعِيبَهَا" فَأَضَافَ الْعَيْبَ إِلَى نَفْسِهِ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّمَا أَسْنَدَ الْإِرَادَةَ فِي الْجِدَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا فِي أَمْرٍ مُسْتَأْنَفٍ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ غَيْبٍ مِنَ الْغُيُوبِ، فَحَسُنَ إِفْرَادُ هَذَا الْمَوْضِعِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْخَضِرُ قَدْ أَرَادَ ذَلِكَ فَالَّذِي أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُرِيدَهُ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا كُلَّهُ أَضَافَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَضَافَ عَيْبَ السَّفِينَةِ إِلَى نَفْسِهِ رِعَايَةً لِلْأَدَبِ لِأَنَّهَا لَفْظَةُ عَيْبٍ فَتَأَدَّبَ بِأَنْ لَمْ يُسْنِدِ الْإِرَادَةَ فِيهَا إِلَّا إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا تَأَدَّبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: "وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ٨٠"(٢٢) فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ قَبْلُ وَبَعْدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَسْنَدَ إِلَى نَفْسِهِ الْمَرَضَ، إِذْ هُوَ مَعْنَى نَقْصٍ وَمُصِيبَةٍ، فَلَا يُضَافُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الْأَلْفَاظِ إِلَّا مَا يُسْتَحْسَنُ مِنْهَا دون ما يستقبح، وهذا كما قال(٢٣) تعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾(٢٤) [آل عمران: ٢٦] وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْسَبِ الشَّرُّ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَالضُّرُّ وَالنَّفْعُ، إِذْ هو على كل شي قدير، وهو بكل شي خَبِيرٌ. وَلَا اعْتِرَاضَ بِمَا حَكَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي واستطعمك فَلَمْ تُطْعِمْنِي وَاسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي) فَإِنَّ ذَلِكَ تَنَزُّلٌ فِي الْخِطَابِ وَتَلَطُّفٌ فِي الْعِتَابِ مُقْتَضَاهُ التَّعْرِيفُ بِفَضْلِ ذِي الْجَلَالِ وَبِمَقَادِيرِ ثَوَابِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُطْلِقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَشَاءُ، وَلَا نُطْلِقُ نَحْنُ إِلَّا مَا أَذِنَ لَنَا فِيهِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ وَالْأَفْعَالِ الشَّرِيفَةِ. جَلَّ وَتَعَالَى عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَقَالَ فِي الْغُلَامِ: "فَأَرَدْنا" فَكَأَنَّهُ أَضَافَ الْقَتْلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَالتَّبْدِيلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْأَشُدُّ كَمَالُ الْخَلْقِ وَالْعَقْلِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي "الْأَنْعَامِ"(٢٥) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّالِثَةُ- قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ زَنَادِقَةِ الْبَاطِنِيَّةِ إِلَى سُلُوكِ طَرِيقٍ تَلْزَمُ مِنْهُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، فَقَالُوا: هَذِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ إِنَّمَا يُحْكَمُ بِهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ(٢٦) وَالْعَامَّةِ، وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ وَأَهْلُ الْخُصُوصِ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تلك النصوص، بل إنما يزاد مِنْهُمْ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ خَوَاطِرِهِمْ. وَقَالُوا: وَذَلِكَ لصفاء قلوبهم عن الاكدار، وخلوها عن الْأَغْيَارِ، فَتَتَجَلَّى لَهُمُ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ، وَالْحَقَائِقُ الرَّبَّانِيَّةُ، فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَارِ الْكَائِنَاتِ، وَيَعْلَمُونَ أَحْكَامَ الْجُزْئِيَّاتِ، فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّاتِ، كَمَا اتَّفَقَ لِلْخَضِرِ، فَإِنَّهُ اسْتَغْنَى بِمَا تَجَلَّى لَهُ مِنَ الْعُلُومِ، عَمَّا كَانَ عِنْدَ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الْفُهُومِ. وَقَدْ جَاءَ فِيمَا يَنْقُلُونَ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ. قَالَ شَيْخُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ يُقْتَلُ قَائِلُهُ وَلَا يُسْتَتَابُ، لِأَنَّهُ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ مِنَ الشَّرَائِعِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجْرَى سُنَّتَهُ، وَأَنْفَذَ حِكْمَتَهُ، بِأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ السُّفَرَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَهُمُ الْمُبَلِّغُونَ عَنْهُ رِسَالَتَهُ(٢٧) وَكَلَامَهُ الْمُبَيِّنُونَ شَرَائِعَهُ وَأَحْكَامَهُ، اخْتَارَهُمْ لِذَلِكَ، وَخَصَّهُمْ بِمَا هُنَالِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾(٢٨) [الحج: ٧٥] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾(٢٩) [الانعام: ٢٤١] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾(٣٠) [البقرة: ٢١٣] [الآية(٣١) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَقَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ، وَالْيَقِينُ الضَّرُورِيُّ وَاجْتِمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنْ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى أمره ونهيه، ولا يعرف شي مِنْهَا إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا آخَرَ يُعْرَفُ بِهَا أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ غَيْرُ الرُّسُلِ بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى عَنِ الرُّسُلِ فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ، وَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى سُؤَالٍ وَلَا جَوَابٍ، ثُمَّ هُوَ قَوْلٌ بِإِثْبَاتِ أَنْبِيَاءَ بَعْدَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الَّذِي قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ خَاتَمَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ يَأْخُذُ عَنْ قَلْبِهِ وأن ما يقع فيه [هو](٣٢) حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، فَقَدْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ خَاصَّةَ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ هذا نحو ما قاله [رسول الله(٣٣) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي) الْحَدِيثَ. الرَّابِعَةُ- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ النَّاسِ إِلَى أَنَّ الْخَضِرَ مَاتَ ﷺ. وقالت فرقة: [إنه(٣٤) حَيٌّ لِأَنَّهُ شَرِبَ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ، وَأَنَّهُ بَاقٍ فِي الْأَرْضِ وَأَنَّهُ يَحُجُّ الْبَيْتَ. قَالَ بن عَطِيَّةَ: وَقَدْ أَطْنَبَ النَّقَّاشُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً عَنْ عَلِيِّ ابن أبي طالب رضى الله عنه وَغَيْرِهِ، وَكُلُّهَا لَا تَقُومُ عَلَى سَاقٍ. وَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيًّا يَحُجُّ لَكَانَ لَهُ فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ ظُهُورٌ، وَاللَّهُ الْعَلِيمُ بِتَفَاصِيلِ الْأَشْيَاءِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ. وَمِمَّا يَقْضِي بِمَوْتِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْآنَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السلام: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ)(٣٥). قُلْتُ: إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ حَيٌّ عَلَى مَا نذكره. وهذا وَالْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ الله ابن عُمَرَ قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: (أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ) قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَهَلَ(٣٦) النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تِلْكَ فِيمَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال [رسول الله(٣٧) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ) يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْخَرِمَ ذَلِكَ الْقَرْنُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: (تَسْأَلُونِي عَنِ السَّاعَةِ وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ(٣٨) تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ) وَفِي أُخْرَى قَالَ سَالِمٌ: تَذَاكَرْنَا أَنَّهَا (هِيَ مَخْلُوقَةٌ يَوْمئِذٍ). وَفِي أُخْرَى: (مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ الْيَوْمَ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمئِذٍ). وَفَسَّرَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ السِّقَايَةِ قَالَ: نَقْصُ(٣٩) الْعُمْرِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ نَحْوُ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَحَاصِلُ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ لَا يَزِيدُ عُمْرُهُ عَلَى مِائَةِ سَنَةٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ) وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ وَلَا الْجِنَّ إِذْ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ، وَلَا الْحَيَوَانَ غَيْرَ الْعَاقِلِ، لِقَوْلِهِ: (مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ) وَهَذَا إِنَّمَا يُقَالُ بِأَصْلِ وَضْعِهِ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بَنُو آدَمَ. وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عُمَرَ هَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ: يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْخَرِمَ ذَلِكَ الْقَرْنُ. وَلَا حُجَّةَ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْخَضِرَ حَيٌّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: (مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ) لِأَنَّ الْعُمُومَ وَإِنْ كَانَ مُؤَكِّدَ الِاسْتِغْرَاقِ فَلَيْسَ نَصًّا فِيهِ، بَلْ هُوَ قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ. فَكَمَا لَمْ يَتَنَاوَلْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَمْ يُقْتَلْ فَهُوَ حَيٌّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ، وَلَا يَتَنَاوَلُ الدَّجَّالَ مَعَ أَنَّهُ حَيٌّ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْجَسَّاسَةِ(٤٠)، فَكَذَلِكَ لَمْ يَتَنَاوَلِ الخضر عليه السلام وليس مشاهد لِلنَّاسِ، وَلَا مِمَّنْ يُخَالِطُهُمْ حَتَّى يَخْطُرَ بِبَالِهِمْ حَالَةَ مُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ لَا يَتَنَاوَلُهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ أحياء وَيَحُجُّونَ مَعَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ فَتَى مُوسَى فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ فِي كِتَابِ (الْعَرَائِسِ) لَهُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخَضِرَ(٤١) نَبِيٌّ مُعَمِّرٌ مَحْجُوبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ عَنْ [ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ] عن عبد الله ابن [شَوْذَبٍ(٤٢) قَالَ: الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وَلَدِ فَارِسَ، وَإِلْيَاسُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَلْتَقِيَانِ كُلَّ عَامٍ فِي الْمَوْسِمِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: إِنَّ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ لَا يَزَالَانِ حَيَّيْنِ فِي الْأَرْضِ مَا دَامَ الْقُرْآنُ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا رُفِعَ مَاتَا. وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أبو محمد عبد المعطي ابن مَحْمُودِ بْنِ عَبْدِ الْمُعْطِي اللَّخْمِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ لَهُ لِلْقُشَيْرِيِّ حِكَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالصَّالِحَاتِ بِأَنَّهُمْ رَأَوُا الْخَضِرَ عَلَيْهِ السلام ولقوه، يفيد مجموعها غلبة الظَّنِّ بِحَيَاتِهِ مَعَ مَا ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ وَالثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (أَنَّ الدَّجَّالَ يَنْتَهِي إِلَى بَعْضِ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ الناس- أومن خَيْرِ النَّاسِ) الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَعْنِي(٤٣) أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ الْخَضِرُ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْهَوَاتِفِ: بسند يرفعه(٤٤) إِلَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ لَقِيَ الْخَضِرَ وَعَلَّمَهُ هَذَا الدُّعَاءَ، وَذَكَرَ أَنَّ فِيهِ ثَوَابًا عَظِيمًا وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً لِمَنْ قَالَهُ فِي أَثَرِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَهُوَ: يَا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَيَا مَنْ لَا تُغْلِطُهُ الْمَسَائِلُ، وَيَا مَنْ لَا يَتَبَرَّمُ مِنْ إِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، أَذِقْنِي بَرْدَ عَفْوِكَ، وَحَلَاوَةَ مَغْفِرَتِكَ. وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ بِعَيْنِهِ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سَمَاعِهِ مِنَ الْخَضِرِ. وَذَكَرَ أَيْضًا اجْتِمَاعَ إِلْيَاسَ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَإِذَا جَازَ بَقَاءُ إِلْيَاسَ إِلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ جَازَ بَقَاءُ الْخَضِرِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَ الْبَيْتِ فِي كُلِّ حَوْلٍ، وَأَنَّهُمَا يَقُولَانِ عِنْدَ افْتِرَاقِهِمَا: (مَا شَاءَ اللَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ مَا يَكُونُ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وَأَمَّا خَبَرُ إِلْيَاسَ فَيَأْتِي فِي "الصَّافَّاتِ"(٤٥) إِنْ شاء الله تعالى. وذكر أبو عمر ابن عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ (التَّمْهِيدِ) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ ﷺ وَسُجِّيَ بِثَوْبٍ هَتَفَ هَاتِفٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ﴾(٤٦) [أل عمران: ١٨٥]- الْآيَةَ- إِنَّ فِي اللَّهِ خَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَعِوَضًا مِنْ كُلِّ تَالِفٍ، وَعَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ. فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ الخضر عليه الصلاة السلام. يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (عَلَى الْأَرْضِ) لِلْعَهْدِ لَا لِلْجِنْسِ وَهِيَ أَرْضُ الْعَرَبِ، بِدَلِيلِ تَصَرُّفِهِمْ فِيهَا وَإِلَيْهَا غَالِبًا دُونَ أَرْضِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَأَقَاصِي جُزُرِ الْهِنْدِ وَالسِّنْدِ مِمَّا لَا يَقْرَعُ السَّمْعَ اسْمُهُ، وَلَا يُعْلَمُ عِلْمُهُ. وَلَا جَوَابَ عَنِ الدَّجَّالِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ الْخَضِرِ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا، فَعَنِ ابْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ: أيليا ابن مَلْكَانَ بْنِ فَالِغَ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَقِيلَ: هُوَ ابْنُ عاميل بن سماقحين ابن أَرْيَا بْنِ عَلْقَمَا بْنِ عِيصُو بْنِ إِسْحَاقَ، وَأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَلِكًا، وَأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ بِنْتَ فَارِسٍ وَاسْمُهَا أَلْمَى، وَأَنَّهَا وَلَدَتْهُ فِي مَغَارَةٍ، وَأَنَّهُ وُجِدَ هُنَالِكَ وَشَاةً تُرْضِعُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ غَنَمِ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَةِ، فَأَخَذَهُ الرَّجُلُ فَرَبَّاهُ، فَلَمَّا شَبَّ وَطَلَبَ الْمَلِكُ- أَبُوهُ- كَاتِبًا وَجَمَعَ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ وَالنَّبَالَةِ لِيَكْتُبَ الصُّحُفَ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَشِيثَ، كَانَ مِمَّنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُتَّابِ ابْنُهُ الْخَضِرُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَلَمَّا اسْتَحْسَنَ خَطَّهُ وَمَعْرِفَتَهُ وَبَحَثَ عَنْ جَلِيَّةِ أَمْرِهِ عَرَفَ أَنَّهُ ابْنُهُ(٤٧) فَضَمَّهُ لِنَفْسِهِ(٤٨) وَوَلَّاهُ أَمْرَ النَّاسِ ثُمَّ إِنَّ الْخَضِرَ فَرَّ مِنَ الْمَلِكِ لِأَسْبَابٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا إِلَى أَنْ وَجَدَ عَيْنَ الْحَيَاةِ فَشَرِبَ مِنْهَا، فَهُوَ حَيٌّ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الدَّجَّالُ، وَأَنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي يَقْتُلُهُ الدَّجَّالُ وَيَقْطَعُهُ ثُمَّ يُحْيِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ النَّبِيِّ ﷺ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمِائَةِ، مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (إِلَى رَأْسِ مِائَةِ عَامٍ لَا يَبْقَى عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا أَحَدٌ) يَعْنِي مَنْ كَانَ حَيًّا حين قال هذه المقالة.قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَّا حَيَاةَ الْخَضِرِ إِلَى الْآنَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- قِيلَ إِنَّ الْخَضِرَ لَمَّا ذَهَبَ يُفَارِقُ مُوسَى قَالَ لَهُ مُوسَى: أَوْصِنِي، قَالَ: كُنْ بَسَّامًا وَلَا تَكُنْ ضَحَّاكًا، وَدَعِ اللَّجَاجَةَ، وَلَا تَمْشِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلَا تَعِبْ عَلَى الْخَطَّائِينَ خَطَايَاهُمْ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ يَا ابْنَ عمران.
(١) راجع ج ٨ ص ١٦٨ فما بعد.
(٢) من ج وك وى: أي على شرف هلاك أو خوف. في ط الاولى قلة وليست بصواب.
(٣) في ج وك وى: الحادث المقدم الوجود.
(٤) الحديث في الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.
(٥) راجع ج ١٦ ص ١٥٩.
(٦) [من ج وك وى.
(٧) هو سوار بن المضرب.
(٨) الزيادة من صحيح البخاري.]
(٩) راجع ج ٣ ص ٣٩ وص ١٣٧.
(١٠) [من ج وك وى.
(١١) الزيادة من صحيح البخاري.
(١٢) في ج وك وى: أصيرم.
(١٣) راجع ج ٢ ص ١٤.
(١٤) القرية هي مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعنى أكلها القرى ما يفتح على أيدي أهلها من المدن ويصيبون من غنائمها.
(١٥) راجع ج ٨ ص ١٢٣.
(١٦) دنية: لحا وهو الأب الأقرب.
(١٧) في روح المعاني: دهنا.
(١٨) في ى: النحاس.
(١٩) في هامش ج: ذويه.
(٢٠) راجع ج ٧ ص ٣٤٢.
(٢١) في ج وك: سفينته.
(٢٢) راجع ج ١٣ ص ١١٠.
(٢٣) في ج وك وى: قاله.
(٢٤) راجع ج ٤ ص ٥٥.
(٢٥) راجع ج ٧ ص ١٣٤ فما بعد.
(٢٦) كذا في الأصول وهو واضح.
(٢٧) في ج وك وى: رسالاته.
(٢٨) راجع ج ١٢ ص ٩٨.
(٢٩) هذه قراءة نافع التي كان يقرأ بها المفسر. راجع ج ٧ ص ٧٩.
(٣٠) راجع ج ٣ ص ٣٠.
(٣١) من ج وك وى.]
(٣٢) من ج وك وى.
(٣٣) من ج وك وى.]
(٣٤) [من ج وك وى.
(٣٥) الحديث كما في الأصول تصحيحه بما يأتي بعد.
(٣٦) وهل إلى الشيء كضرب أي غلط وذهب وهمه إلى خلاف الصواب والمعنى أن الصحابة رضى الله عنهم غلطوا وذهب وهمهم إلى خلاف الصواب في تأويل مقالة النبي ﷺ فكان بعضهم يقول: تقوم الساعة عند انقضاء مائة سنة فبين ابن عمر مراد النبي ﷺ بقوله: يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ويجوز وهل كتعب.
(٣٧) من ج وى.]
(٣٨) منفوسة: مولودة.
(٣٩) في ج وى: بعض العمر.
(٤٠) الجساسة: دابة الأرض التي تخرج آخر الزمان وسميت جساسة لتجسسها الاخبار للدجال.
(٤١) في ج وك: والخضر على جميع الأقوال.
(٤٢) الزيادة والتصويب من (عقد الجمان) للعينى نقلا عن الثعلبي. وفي ج وك وى: روى محمد بن المتوكل عن ضمرة عن عبد الله بن سوار".]
(٤٣) في ج وك وى: يقال
(٤٤) كذا في اوك وفي ج: يوقفه
(٤٥) راجع ج ١٥ ص ١١٥.
(٤٦) راجع ج ٤ ص ٢٩٧.
(٤٧) في ج: عرف اسمه.
(٤٨) في ك: إلى نفسه.
تعليقات
إرسال تعليق